لم يكن هناك شكّ بأن مصر تتجه نحو ثورتها الثانية. كل يوم مرّ بها منذ انحسار المنافسة الإنتخابية بثنائية محمد مرسي وأحمد شفيق أكّد على ذلك. ولم يكن هناك شكّ بأن مصر التي يعطي شعبها عادةً الفرص، كانت تنتظر اكتمال المصيبة كي لا يناقشها برفضها مجادلٌ، فتمتلك كافة البراهين على فساد حكمٍ ستخرج لإسقاطه، خاصةً وأنه حكمٌ متسلّح بإيديولوجيا "تعزّ" لأسباب كثيرة على المصريين، وهي الدين الإسلامي.
ولم يكن هناك شكّ بأن "الإخوان المسلمين" الذين بلغوا الحكم بعد طول انتظارٍ وعطش، سيتمسكون به إلى أقصى حدّ، حدّ الصراخ الهيستيري، حدّ هدر الدم، حدّ اللا-عودة. وقد خطّوا يومياتٍ ستخرجهم تماماً من مصر، ليس كفصيلٍ سياسي فحسب، وإنما كفكرةٍ تحيا بين الناس، لها وجوهٌ وعبوس، لها سكرٌ وزيت، لها سلطة خفيّة بأسماء ما ورائية، تدّعي لنفسها مصداقية الحظر في زمنٍ منهك.لم يكن هناك شكّ بالكثير مما تخبرنا به مصر اليوم. . .أما المفاجآت فلم يحتكرها الشعب.
المفاجأة الأولى تمثّلت بأداء "الإخوان" خلال سنة من الحكم، إذ يمكن للمرء اختصاره بالتعبير الإندهاشي: يا للهول! مستوى لم يتمنه لهم عدوٌّ، إذ كان التخوّف السابق لانتخابهم يصيب مواضيع المرأة والأقباط والسياحة والثقافة والفن والأسلمة/الأخونة. وكان التخوّف صريحاً ومعبّراً عنه، لم يخفه مواطنٌ أو إعلامي أو سياسيٌّ عنهم! لكنهم، ومنذ لحظة تقلّدهم الحكم في شخص محمد مرسي، أصابوا مباشرةً كل من تلك المخاوف في مقتل. المرأة إلى الهاوية، الأقباط متآمرون خونة، الباليه نجس والأوبرا فاسقة، والآثار أصنام، أما المسلسل الرمضاني فبلا نساء، والتعيينات "إخوانية" تماماً كما كاتبي الدستور. ناهيك عن انهيار الجنيه وانقطاع الكهرباء والبنزين في يوميات عصر "النهضة". من كان ليقدّم لناقديه هدايا كهذه، إلا الواثق بديمومة سلطته؟ ومن كان ليصدم شعبه بهذه الطريقة، إلا المكتفي بنفسه؟
هم لم يعارضوا حسني مبارك لكل الأسباب التي أوردها المصريون في خلع مبارك. وهم لم يمانعوا قياداته ولا التوريث ولا قراراته. ولذلك، كانوا المعارضة الوحيدة التي تعايشت معه. هم وجهه الآخر، هم شعار "إسرائيل" الذي أخاف به رؤساء العرب شعوبهم. هم شعار "إسرائيل" في بلدٍ عقد اتفاق صلح مع إسرائيل الفعلية، فاحتاج الرئيس بعد السلم إلى معارضٍ يخشاه ناسٌ ويشتهيه ناسٌ ليشكّل مصدر قلقٍ عام، فيكون شريكه في الحكم، وجهه الآخر. هم عارضوا مبارك لأنهم لا يريدون أن يبقوا في موقع الوجه الآخر. هم أرادوا الصدارة. وكانوا على ثقة من أنهم يستحقون إخضاع الشعب لحكمهم، تماماً كما أخضعه مبارك لحكمه.
وإن كانت لمبارك شرعية الجيش المصري، فلهم شرعية الله على الشعب القاصر. وإن كانت لمبارك ثلاثون عاماً من التراكم، فلهم في مراجعهم ما يزيد عن ألفٍ وأربعمئة سنة من الحروب والسياقات. وإن كان له، فلهم ... من كل هذا، أتت سنة سريالية من حكمهم، سنة سريالية من إعلامهم، سنة سريالية من ممارساتهم العامة والشخصية، سنة من "تعالي أقلك هي فين"، سنة من الجنون ... فأخرجت المصريين عن طورهم. وهنا، أتت المفاجأة الثانية. هو مشهد ثلاثين يونيو كإعلان حاسم للنهاية، وليس كبداية لها.
المشهد لم يبدُ كذلك، يوم ولد في ذهن شبابٍ مصريين ارتأوا أن المعارضة تعارض بلغة "أرفض" و"أستنكر" و"أحذّر"، بينما الناس مصعوقون من هول ما يرون. فخرج شباب "تمرّد" من عيون الناس المدهوشة إلى الشارع، متجاهلين معارضات الواقع، المعارضات التي تسلّم بالواقع. عندما بدأوا بجمع التواقيع، لم يتخيّل المرء أن للفعل أكثر من أثر رمزيّ عميق.
وكذلك تخيّل "الإخوان"، فظنوا أن الإعلان الأبله عن حركة "تجرّد" المؤيّدة لحكمهم، سيكون الرد الكافي على حركة "تمرّد". جمعت "تمرّد" ما يزيد عن 22 مليوناً من التواقيع. هذا رقمٌ لا يُبلع بسهولة. ومع كل توقيعٍ، وجهوا دعوة للخروج من المنزل، أو، كما أسماها صديقٌ، دعوة أوصلوها إلى كل بيت لالتقاط صورةٍ جماعية في الشارع في يوم 30 يونيو.
منذ لحظة ولادة تلك الصورة في ذهن شابٍ مصريّ، حتى التقطتها الكاميرات من المروحيات ولم تأت على كمالها، تشكّلت مفاجأة. حلّت على بحر شهرٍ، ولم تحلّ فجأةً. حلّت بتراكمٍ سريع وجد في كل يوم أسبابه، ولم تحلّ كرد فعل مباشر. وهي قد حلّت أيضاً عظيمةً بفضل الزخم الذي أمّنه "الأخوان" لها، هؤلاء الذين أكّدوا أنهم لا يعرفون شعب مصر، وإنما يدمنون حدوتةً عن سياقٍ تاريخي هم استكماله الظافر حكماً: لقد خرجوا على الناس بالتهديد والوعيد، ونسوا أن مبارك، وقبله السادات وناصر وحتى الملك، لم يجاهروا يوماً بتهديد الشعب، وإنما وصفوا التعنّت بأسماء الأبوة والمصلحة العامة وما شابههما.
ويمكن للمرء أن يستشف جهل "الإخوان" بالشارع المصري منذ اختيار محمد مرسي مرشحاً للرئاسة، وكانوا حينها يعرفون أن خيرت الشاطر لن ينافس فعلياً وإنما سينسحب في مقابل سحب الجيش لعمر سليمان. اختاروا رجلاً مفرغاً تماماً من الكاريزما، أسماه المصريون "استبن" منذ لحظة وقوع أعينهم عليه، علماً أنه منذ ذلك الحين كان الشعب ممتلئاً بكاريزماه الخاصة، لا يطلب من المرشح الرئاسي لا ناصريةً تامة ولا ساداتيةً خطابية. ومع ذلك، كان "استبن" منذ يومه الأول، وانتهى رئيساً يوصف بأنه "فاشل"، لا ديكتاتور ولا جزّار ولا باطل مثلاً، وإنما وصف بالكلمات التحقيرية: "فاشل"، "ردّ سجون"، "ما بيجمّعش"، ... "الأخوان" أثبتوا أنهم لا يعرفون المجتمع المصري، لم يدرسوه وأرادوا حكمه، تماماً كالشاب الذي طعن نجيب محفوظ، لم يقرأ كتبه. يستبدلون تلك المعرفة الضرورية للحكم بنظرة "إخوانية" عن شعبٍ يحتاج إلى من يؤدبه، يربّيه. وهكذا تعاملوا معه، بعدما منحهم الشعب فرصة "رمي البياض"، أي طرح ما لديهم كما يستعرض التاجر بضاعته على رصيف العيون المراقبة. وقد كانت سنة واحدة من المراقبة كافية للثورة.
في الثلاثين من يونيو، وبعد التهديدات الدموية والأكفنة التي وزعها "الإخوان" على بعضهم قبل يوم من الموعد المنتظر، نزل المصريون إلى الشارع فرحين. سمعوا التهديد، وخافوا أولاً، ثم تعالى صوت التهديد فتمرّدوا، وعندما بلغ التهديد أقصاه كانوا قد هضموه تماماً. حسموا القرار، ونزلوا فرحين. منظرهم بدا مفاجئاً لمن استيقظ يومها مترقباً، قلقاً على أهل مصر. وجدهم أمامه بالملايين، عيونهم تبتسم، أجسادهم تتمايل، نكاتٌ من كل حدبٍ وصوب، ومحاولات حثيثة لضبط التجاوزات، من التحرّش إلى الإندساس.
وهنا، للمناسبة، يمكن للمرء التوقف قليلاً عند سياق التحرّش: منذ سنين طويلة والتحرّش في مصر مشكلة تتفاقم حدّ العنف، حدّ الإغتصاب في وضح النهار. ومنذ سنة أو أكثر، بات التحرّش عنواناً يومياً يتصدر الخبر المصري، بالجهد التراكمي للجمعيات النسوية، وبالرفض المباشر والثورة اليومية التي أبداها نساء أصروا على حقّهن بامتلاك الشارع، كما بالتعاون العميق مع شباب ورجال ربما لا يؤمن سوادهم الأعظم بالمساواة التامة، لكنهم يبدأون من نقطة رفض الإعتداء، ورفض الإهانة التي يمثلها هذا الإعتداء. لقد خطت مصر بسرعة في مكافحة التحرّش من شعار "أترضاه لأختك؟" الذكوري إلى شعارات أكثر احتراماً للنساء ككائنات مستقلات واعيات، تدعو البنت إلى اخفاء إبرة حديدة طويلة في "البرا" الخاص بها (من اللافت في مصر أن ينتشر اسم ملابس داخلية نسائية في سياق مطلبي وليس في سياق تهكمي أو ذكوري أو مهين)، لتطعن المتحرّش قبل أن تتصل بالرقم الخاص بمتطوعي مكافحة التحرّش. وإن كان الفعل المطلوب عنيفاً، ففيه اعتراف بعنفية الإعتداء، وبحقها في الدفاع عن نفسها، ولو بالطعن، كما بالدعم المجتمعي لهذا الطعن وإثره.
ذلك كله يدلّ على أن الصورة التي سجّلتها ثلاثين يونيو ليست الدليل على نهضة مصر، وإنما على رغبة مصر الشديدة بهذه النهضة. وهي لن تحلّ بيومٍ أو يومين أو أكثر، ولا بتنحٍّ أو بتنحيين أو أكثر.لكن الرغبة بها عميقة، والجهد المبذول لها حثيث، والمصريون لم ييأسوا، ولا يبدو أنهم سييأسون عمّا قريب. وفي حراكهم فوق هذه البسيطة ما يفتح أفقاً جديداً في النظر إلى غد المنطقة التي لا تزال أسيرة فكّين: الديكتاتوريات العسكرية، والمشاريع الإسلامية البديلة. منطقةٌ فيها المثل المصري، وفيها الحاضر التركي أيضاً.
ورغم المعرفة العميقة بأن الجيش لا بد أن يكون عرّاب المرحلة الإنتقالية، وقد يسعى لأن يكون عرّاب أي مرحلة مقبلة، فقد كانت القوات المسلحة حريصة منذ البيان الأول على تأكيد عدم سعيها للحكم السياسي، وذلك ليس تبرّعاً منها وإنما حصاد شهور من التظاهر والشهادة والكتابة والقول ضد المجلس العسكري، تحت شعار: يسقط يسقط حكم العسكر / مصر دولة مش معسكر. وهي شهور مرشّحة للولادة من جديد، في أي لحظة.
في المقابل، لا البرادعي ولا حمدين ولا شفيق ولا سواهم يمتلكون اليوم شرعية تفوق شرعية شابٍ ينسّق مؤتمرات "تمرّد". ولا صورة أيّ منهم تمنح المصريين أماناً اكبر من ذاك الذي رأوه في حشدهم في شوارعهم. ولا خطاب أي منهم يمتلك كاريزما هتاف الشعب الذي، بعامٍ واحدٍ، نزع عن "الإخوان المسلمين" شرعيةً راكموها خلال تسعين عاماً من أدائهم لدور "الوجه الآخر"، دور الضحية، ولو في الحكم. غداً، لن يكون في حكم مصر "إخوان". وغداً، لن يكون لمصر رئيسٌ من العسكر. مرحلتان، ونهايتان، وسنتان. غداً، ستكون في مصر الخطوات الخطيرة والحساسّة، وسيكتب الدستور قبل الإنتخاب، بحيث تتهيأ الأرض لانتخابات كريمة لا تقوم على أساسٍ انفعالي سريع يؤدي إلى استئثار جديد، تتنافس فيها مختلف التيارات، كلٌّ حسب حجمه وطاقته، من يسارها إلى يمينها مروراً بفلكلورها.
غداً، مرحلة انتقالية دقيقة، يقدّر جميع الأطراف – من الجيش إلى المعارضة - مدى دقّتها، ولن يحميها بالتأكيد وبالفعل إلا شعب مصر. شعبٌ أراد "نهضة مصر".. فنزل بكامل العدد إلى الشارع، وراح يصنعها يومياً، بصبرٍ وبهاء.